تصعيدات الفصح- اقتحامات الأقصى تتجاوز الخطوط الحمراء وتُنبئ بخطر قادم

شهد موسم عيد الفصح العبري هذا العام تصعيدات خطيرة واقتحامات للمسجد الأقصى المبارك بوتيرة غير مسبوقة، سواء من حيث العدد أو طبيعة الأعمال التي ارتُكبت. فمن ناحية الأعداد، شهد هذا العام زيادة ملحوظة في أعداد المستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى مقارنة بالعام السابق 2023، حيث بلغت الزيادة ما يقارب 30%، وهي نسبة كبيرة تنذر بالخطر. وإذا ما قورنت هذه الأعداد بعام 2022، فإن نسبة الارتفاع تجاوزت 90%، مما يعكس تزايدًا مقلقًا في وتيرة هذه الاقتحامات.
لا يُعدّ هذا التّصعيد أمرًا مستغربًا، إذ يعتبر عيد الفصح العبري من أبرز المناسبات السنوية التي تستغلها الجماعات المتطرفة للاعتداء على المسجد الأقصى ومحاولة تغيير الوضع القائم فيه بشكل جذري، سعيًا لفرض واقع جديد يخدم مصالحهم وأهدافهم.
في أحد أيام الاقتحام هذا العام، وتحديدًا في اليوم الثالث، وصل عدد المستوطنين الموجودين داخل المسجد الأقصى في لحظة واحدة إلى أكثر من 600 مستوطن، وهو رقم قياسي لم يسبق له مثيل. وقد فاق هذا العدد أعداد المسلمين المتواجدين في المسجد في ذلك الوقت، خاصةً في ظل القيود المستمرة التي تفرضها سلطات الاحتلال على دخول المصلين وموظفي الأوقاف والحراس إلى المسجد، وذلك في إطار سياسة التقسيم الزماني التي تسعى إلى تكريسها.
على صعيد آخر، لم تقتصر هذه الاقتحامات على مجرد الدخول إلى المسجد، بل تعدتها إلى أداء صلوات علنية ورقصات استفزازية واسعة النطاق داخل باحات المسجد الأقصى، وخاصة في ساحته الشرقية، التي أصبحت أشبه بكنيس يهودي منصوب على أرض المسجد الأقصى، في انتهاك صارخ لحرمة المكان ومشاعر المسلمين.
وقد عبّر عضو الكنيست المتطرف عن حزب الليكود، عميت هاليفي، عن سعادته بهذه التطورات، واصفًا إياها بأنها "انتصار كامل" لإسرائيل، وذلك في تصريح لموقع القناة السابعة الإسرائيلية، مستخدمًا نفس التعبير الذي يطلقه رئيس حكومته نتنياهو بشأن "النصر الكامل" في حربه على قطاع غزة.
ومن اللافت للنظر أن هذا الشخص هو نفسه من تقدم بمقترح لتقسيم المسجد الأقصى بنسبة 30% للمسلمين و70% لليهود، وهو المقترح الذي عرضه على الكنيست في منتصف عام 2023، مما يكشف عن نواياه المبيتة تجاه المسجد الأقصى.
في اليوم ذاته، تناقلت وسائل الإعلام صورًا للاقتحامات المكثفة التي نفذتها مجموعات المستوطنين بقيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير للمسجد الإبراهيمي في الخليل، حيث تم إغلاق المسجد بالكامل في وجه المسلمين، بحجة احتفال المستوطنين بعيد الفصح العبري.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإغلاق يأتي بعد انتهاء شهر رمضان المبارك، الذي شهد رفض سلطات الاحتلال ولأول مرة إغلاق المسجد الإبراهيمي في وجه المستوطنين خلال أيام الجمعة، كما كان معمولًا به في السابق ضمن سياسة التقسيم الزماني التي يتم تطبيقها منذ خمسين عامًا في المسجد الإبراهيمي. وبذلك، تم تجاوز هذه السياسة وتحويل المسجد الإبراهيمي إلى كنيس يهودي بالكامل، وفقًا للتعامل الإسرائيلي.
تثير هذه الأحداث تساؤلات جوهرية حول دوافع هذه الاقتحامات المتكررة، والأسباب التي تدفع جماعات المعبد المتطرفة إلى الإصرار عليها، والظروف التي تسمح بتنفيذها بهذا الشكل المكثف، وماذا يعني تزايد أعداد المقتحمين للمسجد الأقصى عامًا بعد عام؟ خاصةً إذا علمنا أن الحاخامية الرسمية لدولة الاحتلال لا تزال تعارض هذه الاقتحامات والطقوس التي تُقام خلالها.
لفهم أبعاد هذه القضية، يجب أن ندرك أن الخلاف حول دخول اليهود إلى منطقة المسجد الأقصى ليس وليد اليوم، بل هو خلاف قديم بين التيارات الدينية في إسرائيل. وهناك تياران رئيسيان في هذا الصدد: الأول هو التيار الديني التقليدي الذي تمثله مؤسسة الحاخامية الكبرى، والثاني هو التيار الديني الخلاصي الذي يتبنى آراء متطرفة تجمع بين مدرستين: مدرسة الحاخام غرشون سلمون، التي تشدد على ضرورة إقامة المعبد الثالث تمهيدًا لقدوم المسيح، ومدرسة الحاخام مائير كاهانا، زعيم حركة "كاخ" الإرهابية، التي تدعو إلى "تطهير" المسجد الأقصى من الوجود الإسلامي، تمهيدًا لقدوم المسيح. وقد تفرعت عن هاتين المدرستين مؤسسات متطرفة أخرى، تندرج معظمها اليوم ضمن ما يسمى تيار "الصهيونية الدينية".
لا تزال مؤسسة الحاخامية الرسمية الكبرى في إسرائيل متمسكة برأيها التقليدي الذي يمنع اليهود من دخول منطقة المسجد الأقصى، وذلك بسبب ما يسمى "نجاسة الموتى" التي لا يمكن التطهير منها إلا برماد بقرة حمراء، وهو أمر يعتبر معجزة منتظرة لدى التيار الديني الحريدي التقليدي.
في أعراف هذه الأوساط، لم تظهر بقرة حمراء كاملة مطابقة للشروط الشرعية منذ ألفي عام. وقد أثارت قصة البقرات الحمراء الخمس التي وُلدت في تكساس بالولايات المتحدة وتم إحضارها إلى إسرائيل عام 2022، مزيدًا من الجدل والانقسام في المجتمع المتدين حول هذا الموضوع.
تقول الأسطورة الدينية التي تؤمن بها الأوساط الدينية بشكل عام، إن طقس التطهير هذا قد تم في التاريخ اليهودي تسع مرات، وأن المرة العاشرة القادمة ستكون على يد المسيح المنتظر.
وهذا ما دفع المؤسسة الدينية التقليدية إلى رفض الاعتراف بالبقرات الحمراء أمريكية المولد. وترى هذه المؤسسة أن المعجزات المنتظرة ستظهر من تلقاء نفسها عندما يحين الوقت المناسب، سواء كانت البقرة الحمراء، أو نزول المسيح المخلص المنتظر، أو نزول بيت الرب (المعبد الثالث) من السماء ليحل على الأرض.
في المقابل، يقود التيار الديني الخلاصي عملية الاقتحامات وتغيير الوضع القائم في الأقصى، انطلاقًا من فكرة أنه هو المكلف "بتنفيذ إرادة الرب" لإحداث المعجزات التي ينتظرونها. وتنطلق فكرة الاقتحامات من هذا المنطلق، حيث يعتبر المقتحمون أنفسهم "يد الله العظمى".
تقوم هذه النظرية على أساس أن المعجزات الإلهية المذكورة في الكتب المقدسة لا بد لها من يد تنفذها وتجعلها حقيقة واقعة، وهو الأمر الذي كان ينادي به كل من الحاخام مائير كاهانا والحاخام غرشون سلمون. مع وجود اختلاف أساسي بينهما: كان كاهانا يرى أن الأولوية يجب أن تكون "لتطهير" الأرض المقدسة من الفلسطينيين وتخصيصها لليهود فقط، وهو ما سيمهد الطريق لقدوم المسيح لبناء المعبد الثالث. بينما كان سلمون يرى أن الأولوية هي العمل على بناء بيت الرب (المعبد الثالث) في المسجد الأقصى، وهو ما سيمهد الطريق لقدوم المسيح.
اليوم، يجمع تيار الصهيونية الدينية بين آراء الطرفين، حيث يعمل على إزالة الوجود الإسلامي من المسجد الأقصى والفلسطيني بالكامل من الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت نفسه يعمل على إقامة المعبد الثالث داخل المسجد الأقصى.
على الرغم من التباين الواضح بين كاهانا وسلمون، فقد نجح تيار الصهيونية الدينية في دمج الآراء تحت عنوان موحد، وهو تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى وتحقيق السيادة اليهودية الكاملة عليه.
هذا الأمر هو الذي يفسر الاقتحامات المتعددة للمسجد الأقصى، حيث يرى تيار الصهيونية الدينية، الذي تتبعه جماعات المعبد المتطرفة، أن تغيير الوضع القائم لا بد أن يمر عبر زيادة الأعداد وفرض الأمر الواقع على الأرض.
الخطوة الأولى في هذا السياق تتمثل بالطبع في جمع أكبر عدد ممكن من اليهود داخل المسجد الأقصى، بحيث تتحول القضية إلى قضية رأي عام ومسألة لا تقبل النقاش على المستوى الإسرائيلي.
يعتقد أفراد هذه الجماعات أن تكثيف الوجود اليهودي في الأقصى من خلال الاقتحامات المتكررة وأداء الطقوس الدينية كاملة داخل المسجد، يمثل معجزة إلهية بحد ذاته.
إذ يرون أن ذلك يعطي إشارة للرب على جدية الشعب اليهودي في بناء بيت الرب (المعبد الثالث) واستئناف الحياة الدينية في المنطقة كما هو مذكور في النصوص الدينية المقدسة لديهم، وهو ما سيجبر الرب في النهاية على الاستجابة لشعبه والإذن بنزول المسيح المخلص عليهم.
وهكذا، تعتقد هذه الجماعات أنها "أجبرت" الرب على تنفيذ وعوده المكتوبة في النصوص المقدسة.
بناءً على ذلك، فإن أفراد هذه الجماعات يعتبرون أن كسر فتوى الحاخامية التقليدية والتوجه بأعداد كبيرة إلى المسجد الأقصى، هو تثبيت لكونهم "رسلًا" لله في بيته، يقيمون كافة الشعائر الدينية حتى يضطر الإله إلى الاستجابة لهم. بل إن هذه الجماعات ترى أنه كلما ازدادت الأعداد، فإنها تفسر ذلك على أنه إشارة إلهية خفية بالموافقة على نهجهم، وإلا لكان الرب قد أرسل عليهم عقابًا وقوة قاهرة تمنعهم من دخول بيته المقدس.
تعني هذه النظرية الخطيرة أن المؤمنين بها لا يرون أي خطورة فيما يفعلونه من تصعيد داخل المسجد الأقصى، لأنهم يؤمنون بأنهم أداة إلهية في مهمة إلهية لمساعدة الرب على تنفيذ وعوده. وهذه مسألة بالغة الخطورة أدت في السابق إلى كوارث، ليس أقلها إحراق الجامع القبلي في المسجد الأقصى في أغسطس/ آب عام 1969 على يد الأسترالي المتطرف دينيس مايكل روهان، الذي ادعى أثناء محاكمته أنه أحرق المسجد الأقصى تنفيذًا لنبوءة في سفر زكريا بالتوراة، وأنه كان مجرد أداة لتنفيذ مشيئة الرب. وهذا يعني أن تيار الصهيونية المسيحية لا يقل خطورة في آرائه الرعناء عن هذه الجماعات، فهو يدعمها بكل قوته ويرى فيها أملًا بعودة المسيح.
إن الحقيقة التي يجب أن نعيها هي أن الصمت العربي والإسلامي على هذه التطورات، تفسره هذه الجماعات المتطرفة على أنه إشارة إلهية بالرضا عن تحركاتها، مما يشجعها على المضي قدمًا في مشاريعها. وهذا عكس ما يظنه الداعون إلى الصمت بدعوى "عدم استفزاز" الاحتلال، والذين يزعمون أن أي تحرك مضاد للاحتلال في المسجد الأقصى يعتبر "استفزازًا"، وأن الصمت والصبر على ما يفعله سيجعله فاقدًا للمبررات.
الاحتلال – عبر تيار الصهيونية الدينية – لا ينتظر المبررات، وإنما يرى أن هذا الصمت المخيم على الحكومات والشعوب العربية والمسلمة فيما يتعلق بما يجري في المسجد الأقصى، هو بمثابة ضوء أخضر إلهي للمضي قدمًا في فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة التي كان يطالب بها مائير كاهانا، وبناء المعبد الثالث مكان المسجد الأقصى، كما كان يحلم غرشون سلمون.
على النقيض من ذلك، فإن تصاعد الرفض والمقاومة الشعبية العارمة لهذه المشروعات، كما حدث في عدة هبّات جماهيرية سابقة في القدس، تفسره أفراد هذه الجماعات على أنه إشارة إلهية برفض تحركاتهم وعدم الرضا عنها، وبالتالي يجب التوقف عن الاعتداء على المسجد الأقصى.